فن وثقافة

“الفن والوجود” تأملات في مسيرة د.أبو الحسن سلام

بقلم / يازن بدر

د. أبو الحسن سلام، الاسم الذي يحمل في طياته تاريخاً من الإبداع والفكر، يقدم لنا
نموذجاً للفنان الذي يتجاوز حدود الأداء على خشبة المسرح ليصل إلى عمق الوجود
الإنساني. فالفلسفة والفن، على الرغم من اختلاف مناهجهما، يلتقيان في تطلعهما
نحو فهم طبيعة الإنسان والعالم. د. سلام، بتجاربه المسرحية وكتاباته النقدية، يمثل
الجسر الذي يربط بين هذين العالمين، مقدماً استكشافاً للذات الإنسانية من خلال فن
الأداء.
مسيرة د. سلام تشكل استفساراً فلسفياً مستمراً حول الدور الذي يلعبه الإيقاع في
حياتنا، ليس فقط كعنصر فني بل كنسق أساسي يحكم وجودنا وتفاعلاتنا. إنه
يستكشف، من خلال أطروحته الدكتوراه، الإيقاع كمفهوم أوسع من مجرد توقيت
الحركات والكلمات على المسرح، بل كعنصر يحكم الكون والحياة الإنسانية نفسها. هذا
يعيدنا إلى الفلسفات القديمة التي رأت في الكون نظاماً موسيقياً، “موسيقى الكرات”
التي تحدث عنها فيثاغورس.
أعماله الأربعون تعكس تنوعاً وغنى في الأفكار والأشكال، وكأن كل عرض مسرحي هو
تجلٍ جديد لسؤال وجودي، يتشكل ويُعاد صياغته أمام أعين المشاهدين. ومع تأسيسه
لفرق مسرحية متعددة، يظهر د. سلام كمن يبحث عن معنى أعمق للمجتمع من خلال
الفن، معتبراً المسرح محفلاً للتغيير الاجتماعي والسياسي، ومنصة لتحريك الوعي
والتساؤل.
لعل في د. مسيرة سلام إشارة إلى أن الفن، وبالأخص المسرح، ليس مجرد ترفيه أو
تسلية، بل هو ممارسة فلسفية تأملية يتم فيها التفكير في الأخلاق، السياسة،
الجماليات، وحتى الميتافيزيقا. الشخصيات التي خلقها والقصص التي رواها تتجاوز
كونها حكايات لتصبح رموزاً تنطوي على الأسئلة الأزلية حول الهوية، الحرية، والمصير.
في هذا السياق، تتجلى الأهمية الفلسفية له، ليس فقط كفنان مسرحي بل كمفكر
يستخدم العرض الحي كوسيلة لطرح الأسئلة الكبرى. فإن دوره كأستاذ لعلوم المسرح
يعكس اعتقاده بأن المسرح هو تعليم وتربية للروح والعقل معاً. فهو يرى في المسرح
وسيلة لتفكيك الواقع وإعادة تركيبه، مما يدعو المتلقي للتساؤل عن أبعاد الوجود
والحقيقة.
ما يزيد على أربعين عرضاً مسرحياً أخرجها د. سلام، تمثل كل منها تجربة فريدة في
تقديم الواقع من منظور فني. كان يستخدم المسرح كمنبر للتعبير عن القضايا
الاجتماعية والسياسية، مما يجعل أعماله تحمل دائماً بعداً نقدياً وتحليلياً. هو يعتبر
المسرح لغة يمكن من خلالها ترجمة التجارب الإنسانية، ومن ثم، تحفيز الفكر والحوار.
الكتابات النظرية والدراسات الجمالية التي قام بها تؤكد على أن د. سلام لم يكتف
بالعمل الفني التطبيقي، بل سعى لتفهم الأسس النظرية التي تدعم الفن المسرحي
وتطوره. فيظهر اهتمامه بالجانب النظري للمسرح كمحاولة لإيجاد إطار فكري يمكن أن
يساهم في تطوير الفنون الأدائية والارتقاء بها.
وفرق المسرح التي أسسها، مثل فرقة المسرح السياسي وفرقة مسرح السامر،
تعكس رؤيته الشاملة للمسرح باعتباره أداة للتوعية والتغيير. اذ تعد هذه الفرق منابر
للتعبير عن الرأي والتحليل السياسي، وهو ما يشير إلى قناعته بأن الفن له دور
جوهري في تشكيل الوعي العام وتوجيه الرأي العام.
تعكس حياة وأعمال د. أبو الحسن سلام فكرة أن الفن ليس مجرد نشاط إبداعي، بل
هو عملية معقدة تتداخل فيها الأبعاد الجمالية، الأخلاقية، والسياسية. إنه يقدم الفن
كممارسة تأملية تسعى إلى استكشاف الحقيقة وتقديم تفسيرات متعددة للواقع.
المسرح في نظر د. سلام ليس مجرد تقليد للحياة، بل هو نقطة انطلاق للتأمل في
معاني الحياة ذاتها.
لسنين عديدة بالمحبة والفن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى